الهمة في طلب العلم
)
عن أبي نصر هارون بن موسى بن جندل النحوي: كنا نختلف إلى أبي علي البغدادي رحمه الله وقت إملائه النوادر بجامع الزهراء ونحن في فصل الربيع فبينا أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة فما وصلت إلى مجلسه رحمه الله إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة فأمرني بالدنو منه وقال لي: مهلاً يا أبا نصر لا تأسف على ما عرض لك فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة بثياب غيرها تبدلها ولقد عرض لي ما أبقى بجسمي فدوبا يدخل معي القبر، ثم قال لنا: كنت أختلف على ابن مجاهد رحمه الله فأدلجت إليه لا تقرب منه. فلما انتهيت إلى الدرب الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقاً وارث علي فتحه. فقلت: سبحان الله أبكر هذا البكور، وأغلب على القرب منه. فنظرت إلى سربٍ بجنب الدار فاقتحمته فلما توسطته ضاق بي ولم أقدر على الخروج ولا على النهوض، فاقتحمته أشد اقتحام حتى نفذت بعد أن تخرقت ثيابي واثر السرب في لحمي حتى انكشف العظم ومن الله علي بالخروج فوافيت مجلس الشيخ على هذه الحال. فأين أنت مما عرض لي وأنشدنا:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألفوا دونه الأزرا
فكابدوا المجد حتى مـل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صـبرا
لا تحسب المجد تمـراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصـبرا
قال أبو نصر فكتبناها عنه من قبل أن يأتي موضعها في نوادره. وسلاني بما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من تلك الثياب، واستكثرت من الاختلاف إليه ولم أفارقه حتى مات رحمه الله. كتب من عندي هذه الحكاية شيخنا القاضي أبو عبد الله ابن الحاج رحمه الله واستحسنها وأعجب بها. قال ابن حيان: توفي يوم الاثنين لأربع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وأربع مائة.