الكاتب : عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
( 2 )
بينما كانت السيارة تُسام سوء العذاب ، وتقاسي مرارة الاغتراب ، وحرارة
الخيبة والاكتئاب ، إذ هبطت السيارة الثانية في تلك العاصمة النائية ، وطفقت تنادي
بصوت رفيع : ( عفة واستقامة للبيع ) ! ، هل من طالِب فيُعطَى طِلْبته ، هل من
راغب فينال رغيبته ؟ ! فما سمعها إنسان إلا تخيّل أنها مختلة الشعور ، فرت من
البيمارستان ، ولكن استلفت إليها الأنظار جمالها الباهر ، وما يلوح عليها من مخايل
الوقار والكمال الظاهر ، فأحاط بها الناس إحاطة الهالة بالقمر ، والأكمام بالثمر ،
معتقدين صِدق لهجتها ، ونفاسة سلعتها ، فقالت الأغنياء : لو كانت دُورُنا كبيرة
كدُور آبائنا الأولين لاشترينا منها هذا المتاع الثمين ، واخترناه في مخازنها الكبيرة ،
واحتكرناه إلى وقت الضرورة ، ولكن مخازن بيوتنا اليوم صغيرة ، لا تكاد تسع
أثاثنا وبضاعتنا الكثيرة ، فكيف نضم إليها من الأزواج ( أي : الأصناف ) ، ما لا
يُرْجَى له رواج ؟ ! لا سيما ونحن مضطرون إلى إهماله ، أو الوقوع في سوء
استعماله ، وقالت الفقراء : بماذا نشتري هذا المتاع الفاخر ؟ ، الذي هو زينة أرباب
الغنى والمظاهر ، وحِلْية الكبراء ، ومفخر الأمراء ، بل ومِعْرَاج العُبّاد الناسكين ،
يرقون فيه إلى مقامات الأولياء المقربين ، وإذا تكلفنا تحصيل ثمن العفة والاستقامة ،
وإنه لأمَرّ مما يجرعنا الفقر من الضجر والسآمة ، فهل يصدق هؤلاء الناس بأننا
ملكنا هاتين السلعتين النفيستين ، ويعترفون لنا بأننا صرنا أعِفَّاء مستقيمين ؟ ، كلا ،
بل يقولون : إننا نُسمِّي عجزنا عن تناول الشهوات عفة ، وإننا ما استقمنا على
الطريقة إلا مُكرَهين ، وبلجام الفقر مكبوحين ، وقالت النساء : إذا اشترينا العفة
والاستقامة ، فإننا نرجع بالخيبة والندامة ؛ لأن هؤلاء الرجال الأشرار لا تحظى
عندهم إلا منهتكات الأستار ، فما لم تتبرج إحدانا تبرج الجاهلية ، وتتجلى لهم بأبهى
مجالي الزينة الصناعية - لا تجد فيهم خاطبًا ، ولا تلقى منهم راغبًا ، فإذا اشترى
الرجال فإنَّا مشتريات ، وإذا عفّوا واستقاموا فإنا نكون عفيفات نزيهات ؛ فالرجال
قوّامون على النساء ، لا النساء قوّامات على الرجال ، ولا نستطيع أن نكون على
نقيض ما هم عليه في حال من الأحوال ، ثم تقدمت امرأة من الأيامى إلى السيارة
مستامة ، فقالت ( المرأة ) : هل هذه العفة غالية الثمن ؟ ! ( السيارة ) : لا
( المرأة ) : ما ثمنها ؟ ( السيارة ) : أربعة وعشرون درهمًا من الصبر ، ومخالفة
النفس الأمَّارة بالسوء ، ( المرأة ) : هل يؤخذ هذا الثمن دفعة واحدة وتؤخذ به العفة؟
( السيارة ) : لا ، وإنما يُدفع أقساطًا في مدة طويلة ، ولا تتم هذه الأقساط إلا
ويرى المشتري العفة ملك يمينه ، ( المرأة ) : إذن العفة غالية جدًّا ، ثم غادرتها
المرأة وانصرفت وانفضّ في إثرها الجَمع ، فلم تجد السيارة بعد انصراف الناس
عنها بُدًّا من التطواف والجولان ، وعَرض بضاعتها على كل إنسان ، فمرت في
طوافها ببناء شاهق ، قد ازدحمت عليه أصناف الخلائق ، ولما سمعت أقوالها ،
وتعرفت بالفراسة أحوالهم ، رأتهم يتبادلون النظر الشزر ، ويتعاملون بالدهاء والمكر،
كأنهم خصماء ، قد أُلقيت بينهم العداوة والبغضاء ، فعَرَضت عليهم بضاعتها
الثمينة ، وأخبرتهم بأنها تُذهب بالحقد والضغينة ، فأعرضوا عن التذكرة ، كأنهم
حمر مستنفرة فرت من قسورة ، وعَلِمت هي من القرائن الحالية ، أن البِناء الشامخ
هو نظارة العدلية ( الحقانية ) ، فطافت في أرجاء المكان ، ثم دخلت إحدى غرفه
بغير استئذان ، وإذا هي محكمة النقض والإبرام ، ومكان التشريع العام ، وإذا
بالقضاة فيها يأتمرون ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } ( النحل : 19 ) ،
فصاحت السيارة : يا معشر الحُكَّام ، القابضين على أزِمَّة مصالح الأنام ، هل أدُلكم
على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، وتنالون بتناولها الفخر العظيم ، تتمتعون منها
بالنعماء ، وتفيضون من بركاتها على الدَّهماء ؛ لأن من ربحها العدل في القضاء ،
والإنصاف بين الخصماء ، وناهيكم به عمرانًا للبلاد ، وإسعادًا للعِباد ، وذلك أن
تبتاعوا مني بعض بضاعتي السماوية ، التي أرسلني لبيعها رئيس المعبودات العلية
وهي العفة التي تقف بالنفس البهيمية موقف الاعتدال ، والاستقامة التي ترتقي
بالنفس الناطقة إلى أوْج الكمال ، ولا ريب أنكم أيها الأكياس ، أوْلى بهاتين من سائر
الناس .
كانت السيارة تتكلم بقوة روحية ، وعيناها النجلاوان تنبعث منهما أشعة نورية
كادت تخطف الأبصار ، وتحقق الاعتبار ، فاعترت القضاة الدهشة ، وهزَّتهم
الرعشة ، وعَلتهم الهيبة ، وصمَّموا على التوبة ، ولولا ذلك لأوقفوها عن المقال ،
في أول المجال ، وبعد أن أتمَّت الخطاب ، وسكن من القضاة الاضطراب ، ثَابَت
إليهم حالتُهم الأصلية ، وعادت إليهم خواطرهم العادية ؛ فرأوا أنها تدعوهم إلى محو
ملكات ، وتبديل صفات بصفات ، وتسدل بينهم وبين الاستعلاء على الناس حجابًا ،
وتغلق دونهم من الثروة أبوابًا ، فقالوا : إن هذه الفتاة قد هَتكت حرمة النظام ،
واحتقرت بكلامها الحكام والأحكام ، فيجب أن تُُُزَج في أعمق السجون ، حتى يأتيها
المَنون ، وحَكَم الرئيس بهذا الجزاء ، باتفاق الآراء ، وعهد إلى الشرطة بتنفيذه في
الحال ، أو تفتدي بمبلغ عظيم من المال ، لا من بِضاعتها المُزْجاة ، وسلعتها المزجَّاة فأخرجها رئيس الشرطة ( قومسير البوليس ) ، من الديوان ، وانفرد بها في مكان
يريد استنطاقها ، وتعرّف أخلاقها ، وكان ذا فراسة ، وصاحب كياسة ، وكفى
بالتجاريب عِبْرة وتهذيب ، ولمّا رأى من كمالها ما رأى ، ووقف على حُسن
مقاصدها ، وإرادتها الخير لبني الإنسان ببيعهم العفة والاستقامة اللتين هما من أهم
أسباب سعادتهم ، قال لها : ( أي بُنية ، اختاري لك محلاًّ آخر لبيع هذه البضاعة
النفيسة ، وإياك أن تمُري بهذا المكان ثانية ؛ فإن أهله أعداء العفة والاستقامة ،
ونسأل الله السلامة ! ) ، فعقلت ما قال من الكلام ، وتقبَّلت نصيحته الأبوية ،
وانصرفت بسلام .
ثم مرت بمكان آخر يشبه الأول في فخامة بنائه ، وكثرة اجتماع الناس في
فنائه ، فخطر لها أولاً أنها ربَّما تلقى في هذا ما لقيته في الأول ؛ لشبهه به وقربه
منه ، ولكن حملتها قوة الأمل ، وشدة الثبات على العمل - وهما سبب كل نجاح ،
وعُنوان كل فلاح - أن تمازج أهله ، فمازجتهم ، وأن تساومهم فساومتهم ، وابتدأت
بقوم جلوس على الأرض ، يشتغل بعضهم بمحاورة بعض ، فقالت لهم : هل من
مريد للعفة ، هل من راغب في الاستقامة ، فإنني كُلفت باستبضاعهما ؛ لأجل بيعهما،
فطفِق بعضهم يضحك منها مغربًا ، وبعضهم يسخر منها مستغربًا ، وقال لها أحدهم:
أيتها الفتاة السليمة النية ، الصادقة الطوية ، إن العفة والاستقامة قد أوقعتانا في
الحسرة والندامة ، وإن تيارهما هو الذي قذف بنا في هذا المكان ؛ حيث نقاسي الذل
والهوان ، فقال له آخر : دعْ عنكَ هذه الفتاة الحمقاء ، لقد كان عندي هذا المتاع .
وكنت أحافظ عليه جهد المستطاع . ولولا أنني ألقيته في قاع البحر . لأهلكني الذل
والفقر . وقد فاض عليَّ بتركه معين الثروة والغنى ، ونلت بعده غاي المُنى ، أترقى
في الوظائف العالية ، وأتقلب في الرتب السامية ، وأتحلى بالوسامات الزاهية ، وإذا
عزلت أجيء هذا المكان ، مملوء الجيب بالأصفر الرنَّان ، فلا يمر عليَّ شهران ،
إلا وأنال أقصى ما في الإمكان ، ولولا توبيخ الضمير على ترْك ذلك الإكسير ،
لكنت أنعم بَالاً مِن كل أمير ، وأطْيب عيشًا من كل وزير ، ولكنها خواطر تمر مرَّ
السحاب ، لا تداني ذلك البؤس والاكتئاب ، وما أنا بمجنون ، فأعود إلى ذلك الهون،
بابتياع الاستقامة والعفاف ، من هذه الفتاة الكاملة الأوصاف ، ثم التفتَ إلى السيارة ،
وقال لها : أنصحك - أيتها الفتاة المسكينة - أن تذهبي بسلام قبل أن يَحُلّ بك
الانتقام ، فأنت الآن مع المعزولين ، وإياك وإيَّا الموظفين ، وإذا بالمكان ( نظارة
الداخلية ) ، والذين كلَّموها هم من الموظفين المعزولين ( كالمديرين والمأمورين )
جاءوا ينتظرون وظائف تخلو من عُمَّالِها ؛ ليطلبوها لأنفسهم ، فتذكرت السيارة ما
لَقِيت من النِظَارة الأولى ، وما كانت ناسية ، وقالت - في نفسها - : ما أشبه الليلة
بالماضية ، وانْسَلَّت من النظارة حزينة ، ثم طافت قليلاً في المدينة ، تَعْرِض
البضاعة بالثمن الزهيد ، راجية أن تَحْظَى برجل رشيد ، فوجدت الناس في سلوكهم،
على دين ملوكهم ، فخرجت من المدينة خائفة تترقب أن يلحقها العذاب المهين ،
وتوجهت إلى الملأ الأعلى وهي تقول : ] رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [ ... ( القصص : 21 ) .
( وللكلام بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________