الكاتب : عمر خيري أفندي زغلول
__________
كان يا ما كان
( 3 )
بعد فِرَار السيارتين الأولى والثانية . جاءت السيارة الثالثة تحمل ( الصحة
والعافية ) . وما كادت تعرض بضاعتها هذه على الناس ، من جميع الأجناس ، إلا
ونفروا خفافًا وثقالاً ، وأقبلوا عليها إقبالاً ، ولقد كثروا عددًا ، حتى كادوا يكونون
عليها لبدًا ، متسابقين إلى الابتياع ، متنافسين في هذا المتاع ، وما منهم إلا شاكٍ من
ألم ، أو باكٍ من سقم ، وأهونهم حالاً مَن يشكو الإقهاء ( فقد شهوة الطعام ) ، أو
ضعف عضو من الأعضاء ، وقد علمت السيارة أن أكثر القوم هم الجانون على
صحتهم ، والمضيعون لها بجهالتهم ؛ ولذلك توقفت عن المبيع ، وأمسكتها عن
الجميع ؛ لأنها مأمورة بأن لا تبيع سلعتها ، إلا لمن يعرف قيمتها ، ثم أنشأ بعضهم
يساومها ، فقال :
( المساوم ) : هل ثمن الصحة والعافية كثير ؟ ( السيارة ) : لا ، وإذا لم يكن
بَخْسًا فهو معتدل ، ( المساوم ) : ما هو الثمن ؟ ( السيارة ) : ( 1 ) النظافة في
المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، و ( 2 ) أن يكون الأكل معتدلاً وعند الجوع ،
و ( 3 ) الإمساك عن تناول أي نوع من أنواع المُسْكِرات ( لغط وجَلَبَة من
المستمعين وترديد لفظ : بِضاعة غالية لا يقدر على شرائها إلا العُبّاد والنُّساك ! ) ،
و ( 4 ) النوم في أول الليل ، و ( 5 ) القيام من النوم باكرًا ، و ( 6 ) المراوحة
بين الرياضة الجسمية والعقلية ، قالت : وشرط البيع عدم الإفراط في شيء من
الأشياء ؛ لأن الإفراط في الراحة يضر الجسم ، ويُذهب بالصحة ، كالإفراط في
التعب ، وما من تفريط إلا ويقابله إفراط ، وملاك الصحة الاعتدال وملازمة الأوساط.
فلما فرغت السيارة من كلامها ، أعرض أكثر القوم عن سوامها ، قائلين :
يستحيل أن يشتري هذه البضاعة أحد ! ، من أهل هذا البلد ؛ فليس عندنا حكماء ،
ولا عُبّاد أتقياء ، يقدرون على الاعتدال في جميع الأعمال والأحوال ، ولمّا سمع
الأطباء والتُّرَبِيَّة ( الذين يدفنون الموتى ) أن فتاة من العوالم العلوية ، هبطت إلى
هذه الدنيا الفانية ، تبيع للناس الصحة والعافية ، رأوا في ذلك هضمًا لحقهم ، وقطعًا
لسبب من أسباب رزقهم ؛ فعزموا على إبطال هذه التجارة ، أو الإيقاع بالسيارة ،
وبعد المؤامرة ، وطول المذاكرة ، اتفقوا على أن يتولى الأطباء من تلك الساعة ،
السعي في إتلاف تلك البضاعة ؛ لأنهم مأذونون من الحُكّام ، بالعبث بصحة الأنام !
ومعهم إجازة قانونية ، بالتصرف بأرواح البَرِيَّة ، وتوهموا أنهم بإتلاف هذه
البضاعة النافعة ، يتمكنون من إزهاق روح البائعة ، وعندما تُسقى كأس المنية ،
تأتي في حقها وظيفة التُّرَبية ، فيودعونها الرمس ، { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } ( يونس:
24 ) ، ثم اقترب من الفتاة ، أحد التُّرَبيّة العتاة ، وخطف منها الصندوق ، ومَرّ
بأسرع من وميض البروق ، فصاحت وأعولت ، وبكت وولولت ، وقالت : أيها
الناس أدركوا الغاصب اللعين ، ورُدوا عليَّ متاعي الثمين ، فبادر إليها أحد الأطباء ،
وأوهمها بالمكر والدهاء ، بأنه قد أشفق عليها ، وعزم على رد بضاعتها إليها ،
وطلب منها أن تتبعه ، وتذهب إلى حيث شاء معه ، فأجابته لسلامة نيتها ، وخلوص
طويتها ، فأدخلها إلى بناء ، علمت أنه دار الشفاء ، فحاولت الرجوع من قريب ،
فحال دون ذلك الطبيب ، وقال لها : أنت ذات مرض ، يكاد يبلغ الحرض ، فلا
تخرجين من هنا بحال ، إلا بعد تمام الإبلال ( الشفاء التام ) ، ( السيارة ) : كلا ،
إني في صحة وعافية ، ونِعَم ضافية ، ( الطبيب ) لها : كلا ، لا مفر ؛ فإن علامات
مرضك تنذر بالخطر( السيارة ) : كيف وأنا أشعر بكمال القوة والنشاط ، ولساني
نظيف ونبضي نبض الأصحاء ، وأكلي وشربي ونومي في غاية الاعتدال ،
(الطبيب) : علامة منذرة ، علامة منذرة ، علامة منذرة ! ثم أمر الممرضات ،
فنزعن عنها ثيابها وألبسنها ثياب المرضى رغمًا عنها ، وحملنها إلى السرير ، فعند
ذلك أقبل عليها الدكتور ، وكاشفها بما في نفسه قائلاً : كان يجب عليك - أيتها الفتاة-
أن تأتينا أولاً ببضاعتك هذه ، وتعقدين معنا شركة للاتجار بها ، ونحن الأطباء
نقدر أن نبيعها بأغلى الأثمان ! ، ولكن لجهلك بحال الناس في هذه العاصمة ؛ بذلت
لهم الصحة والعافية بثمن بخس ، يقدر عليه كل أحد ، ولم تعلمي أنك بصنيعك هذا
قاومت طائفة كبيرة لها مكانة عالية ، تبيع لأجلها الأمراض بأثمان غالية ، وعاديت
أيضًا طائفة التُّرَبية ، حيث تقل الوفيات بنشر الصحة العمومية ، وقد تبين لك الآن
أنك جئت شيئًا فرياً ، وكأنك كنت تجهلين قاعدة ( ضعيفان يغلبان قويًا فحلّ بك البلاء
بمقاومة طائفتين من الأقوياء ، ثم دعا الدكتور جماعة من إخوانه لعقد مؤتمر طبي ( قونسولتاسيون ) ، فكان كل منهم لدعوته أسرع مُلَبٍّ ، وكذلك يشترك الجم الغفير ،
في اقتراف الجرم الكبير ؛ ليوقعوا الناس ، في الريب والالتباس ، بل ليوهموهم بأن
الخطر جاء من طبيعة الداء ، لا من تقصير الأطباء ، وقد أجمع رأي جماعة المؤتمر،
على أن السيارة في أشد الخطر ، يجب أن تفصد مرتين في كل يوم ؛ ليخف
استغراقها في النوم ، وأن تُحقَن بالمورفين بكرة وعشية ؛ لتنجو من آلامها العصبية،
وإنما قصدوا إيقاعها في داء يُعَجِّل لها المنية ، وإن شئت قلت قتلها بالطريقة
القانونية ، ومازالوا يزاولون هذه الأعمال المهلكة ، حتى وقعت السيارة في الأمراض
المنهكة ، ولولا أنها من العوالم الخالدات ، لأدركها الممات ، وتيقنت أنه لا نجاة لها
من هذا البلاء ، إلا بالفرار من ( دار الشفاء ) ، فأصابت غِرَّة من الخفراء ، في
جنح ليلة درعاء ، فانسلَّت انسلال الأفعى ، وولت مدبرة تسعى ، ومرت في طريقها
بالمقبرة وهي كما علمت متنكرة ، فأبصرت الأموات بالصحة متمتعين ، وبحُلل
العافية رافلين فعلِمت أن التُّرَبية قد دفنوا الصندوق في ذلك المكان المهجور ؛
فصارت الصحة والعافية نصيب أهل القبور ، ثم طارت السيارة في الهواء ،
صاعدة إلى السماء، عازمة أن لا تعود ، ولو أمرها جوبيتر المعبود !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________